الفكر
الإسلامي
الإسلام
بكامله دين الرحمة ، كما ورد في الكتاب والسنة
بقلم : الشيخ إبراهيم الدسوقي
وزير الأوقاف الأسبق
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه .
*
الكلمات :
الرحمة
: عاطفة شريفة وخليقة محمودة وضدها القسوة التي عاقب الله بها اليهود، ومعنى «جعل»
اخترع وأوجد ويُحَدَّث أن يكون بمعنى «قدر»
في لغة العَرب .
ومائة جزء : المراد بالمائة التكثير لا
الحقيقة إذ أن رحمة الله غير محصورة ولا تُحَدُّ بحد، وقيل إعداد الحقيقة وعليه
فيحتمل أن تكون مناسبة لعدد درج الجنة، والجنة محل الرحمة، فكانت كل رحمة بإزاء
درجة ، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله، فمن نالَتْه منه رحمة واحدة
كان أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة.
وقال
الكرماني الرحمة لغة عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير، والقدرة في نفسها غير
متناهية، والتعلق غير متناه؛ ولكن حصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلاً للفهم،
وتقليلاً لما عند الخلق وتكثيرًا لما عند الله سبحانه .
*
البيان :
الرحمة فضيلة محمودة وخُلُقٌ من الأخلاق
الفاضلة وصفة من الصفات الكاملة التي وصف الله بها نفسه وتفضل بها على عباده وامتن
بها على خلقه، والرحمة الشاملة الواسعة هي رحمة الله رب العالمين ، فقد شملت جميع
الكائنات وعمت كل الموجودات، فما من كائن إلا وهو يتنبأ ظلالها وما من كائن إلا
وهو يغرف من فيضها، قال – تعالى–: ﴿وَرَحْمَتِيْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾
سورة الأعراف، آية:156.
فما
هذه الأنهار المجراة، والأرض المدحوة، وما هذا الزرع النابت، والتمر اليافع، وما
الليل الداجي، والنهار المتجلي إلا أثر من أثار رحمة الله – تعالى – قال سبحانه: ﴿وَمِنْ
رَحْمَتِه جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوْا فِيْهِ
وَلِتَبْتَغُوْا مِنْ فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ﴾ سورة القصص –
آية: 73.
وسواء لديه سبحانه من أسرَّ القول ومن جهرَ
به، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة – قال جل جلاله: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِيْ
لاَ إِلـٰـهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمـٰـنُ
الرَّحِيْمُ﴾ سورة الحشر- آية: 22
كما قال لنبيه ﷺ : ﴿وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِآيَاتِنَا
فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِه الرَّحْمَةَ
أَنَّه مَنْ عَمِلَ منْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثـُمَّ تَابَ مِن بَعْـــدِه
وَأَصْلَحَ فَأَنَّه غَفُــوْرٌ رَّحِيْمٌ﴾ سورة الأنعام – آية: 54 .
كما
تذكرنا أثار رحمته سبحانه باليوم الآخر والتزود له بما يقي الإنسان هو له، وحين
ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابًا، قال – تعالى – : ﴿فَانْظُرْ إِلـٰـى آثـَارِ
رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِيْ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا إِنَّ ذٰلِكَ
لَمُحْيِيْ الْمَوْتىٰ وَهُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٍ﴾
سورة الروم – آية: 50.
آفاق
الرحمة
وكما وصف الله سبحانه نفسَه بالرحمة فقد
كان من أعظم آثار رحمته سبحانه أن غير وجه الحياة الكالح وجوها المفعم بالفساد
والشر والقسوة والغلظة إلى حياة ملؤها العزة والكرامة والرحمة والرفق والسعادة والأمل
فأرسل رسوله محمد ﷺ مختتمًا به رسالات السماء وبعثه رحمة للخلق كافة. قال –
تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِيْنَ﴾
سورة الأنبياء – آية: 107.
وقال
: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَءُوفٌ رَّحِيْمٌ﴾ سورة التوبة –
آية : 3 .
ومع
بعثه ﷺ
أنزل كلامه المعجز وآيته الكبرى. إنه كلام الله – شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة –
قال عز من قائل: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ
شَيءٍ وَّهُدًى وَّرَحْمَةً وَّبُشْرٰى لِلْمُسْلِمِيْنَ﴾ سورة النمل
– آية : 89 .
وبتلك
الــرحمــة ولين الجانب وسعة الصدر ورقة الطبع استطاع ﷺ
أن ينقل العرب من ظلام الشرك إلى نور التوحيد، ومن ذلك الكفر إلى عزة الإسلام.
﴿فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيْظَ الْقَلْبِ
لاَنَّفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ سورة آل عمران – آية: 159 .
وما
كانت الرحمة وقفًا على طائفة دون أخرى بل كانت شاملة حتى عاش في كنفها أعداؤه
وخصومه حتى إنهم كلما بالغوا في إيذائه بالغ في عفوه، وقابل ذلك بقوله: «اللهم
اهد قومي فإنهم لا يعلمون»
بل أن مجرد وجوده بينهم كان رحمة لهم كفت عنهم عذاب الاستئصال الذي نزل بالأمم
قبلهم، قال – تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيْهِمْ
وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُوْنَ﴾. سورة الأنفال –
آية : 33 .
كما
نهى عن تعذيب الأسرى وعن قتل النساء والعجزة من الأعداء الذين لايشاركون في القتال
وعن الصبيان وعن المثلة بالموتى، كل ذلك سبق به الإسلام القوانين التي تنادى بها
الدول حديثًا ، على حين نلهث للحاق بهذه الدول مَثَلنا في ذلك كما قال الشاعر:
اِسْتَرْشَدَ الْغَربُ بالماضي فأرشـدَه
ونحـــن كان لنـــا مـاضٍ نسِيـــنَاه
إنَّا مَشينا وراءَ الغَربِ نقتبس من
ضيائِـــــــه فَأَصَابْتــــــنا شظايـــــاه
كما
وصف سبحانه صحابة رسوله ﷺ
بأنهم يتراحمون فيما بينهم قال سبحانه: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُوْلُ اللهِ
وَالَّذِيْنَ مَعَه أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾
سورة الفتح – آية : 29 .
على أن خلق الرحمة واجب المسلم في تصرفه وعلاقاته وأن يكون بحاله في نفسه
الصورة المثلى والأسوة الحسنة في أقواله وأفعاله وإلا كان النسمة تُضيء للناس
وتحرق نفسها فواجبه أن لا يرى حيث نهاه ربه ولا يفقده ربه حيث أمره فهو السابق
للخيرات التقي النقي الذي ينآى بنفسه عن المنكرات والموبقات .
وثم
فإن أول أبواب الرحمة التي يطرقها تلك التي يقدمها لألصق الناس به . ورد الجميل
لمن أسدى إليه الجميل باذلاً في سبيله الغالي والرخيص ولصاحب الحق عليه بعد ربه
وهما الوالدان . بالعطف عليهما والإحسان إليهما وتقديم العون لهما.
ومن
مظاهر هذه الرحمة تربية الأبناء ورعايتهم وتقديم الأسوة الطيبة لهم في محيط الأسرة
قولاً وعملاً والعناية بهم صحيًا واجتماعيًا ودينيًا وتعليمهم المفيد في حياتهم
وحياة أمتهم .
ومن
أعظم القربات التي أولاها الإسلام بالغ رعايته
صلة الرحم والرسول الكريم صلوات الله عليه يقول: من أراد أن ينسأ له في أجله
ويبارك له في رزقه فليصل رحمه كما يقول سبحانه : ﴿وَاتَّقُوْا اللهَ
الَّذِيْ تَسَآءَلُوْنَ بِه وَالأَرْحَام﴾ سورة النساء – آية:1 .
وقال
سبحانه متوعدًا من يقطع رحمه : ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ أَنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوْا فِيْ الأَرْضِ وَتَقَطَّعُوْا أَرْحَامَكُمْ أُولـٰـئِكَ
الَّذِيْنَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ﴾
سورة محمد – آية: 22-23 .
وقال
ﷺ
: لايدخل الجنة قاطع .. قال سفيان في روايته يعني قاطع رحم .. متفق عليه .
والأسرة
ما لم تعطرها الرحمة انقلبت إلى جحيم يصلى ناره الزوجان كما ينعكس ذلك على الأولاد
شقاء وضياعًا وحرمانًا فإن الله سبحانه أكد الحفاظ على العلاقة الزوجية أن تنفصم
عراها أو يصيبها الضعف حين جعل الأساس لهذه العلاقة المودة والرحمة وحسن العشرة
ودوام الألفة والمحبة وفي ذلك يقول سبحانه : ﴿وَعَاشِرُوْهُنَّ
بِالْمَعْرُوْفِ﴾ سورة النساء – آية : 19 .
كما
يقول تعالى : ﴿وَمِنْ آيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوْا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَّرَحْمَةً﴾
سورة الروم – آية : 21 .
كما أوصى صلوات الله عليه بحسن معاملة
الأتباع والخدم ، وحذر من القسوة عليهم بل لقد جعل كفارة ذلك مع الرقيق تحريره من
رق العبودية، فعن أبي مسعود البدري – رضي الله عنه – قال : كنت أضرب غلامًا لي
بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي يقول: «اعلم أبا مسعود» فلم أفهم الصوت من الغضب فلما دنا مني إذا هو رسول الله ﷺ فإذا هو يقول: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على
هذا الغلام . فقلت لا أضرب بعده مملوكاً أبدًا) ، وفي رواية فقلت يا رسول الله هو
حر لوجه الله تعالى قال ﷺ : (أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار) .
والرحمة
خلق ينتظم المجتمع كله «يرحم
الكبيرُ الصغيرَ ويعين القويُ الضعيفَ ويواسي الغنيُ الفقيرَ ويمتد نسيج الرحمة
حتى يربط بين القريب والبعيد والعدو والصديق .. روى الطبراني أن رسول الله ﷺ
قال: (لن تؤمنوا حتى تراحموا قالوا يا رسول الله كلنا رحيم قال إنه ليس برحمة
أحدكم صاحبه ولكنها الرحمة العامة) . ومنهم أولئك الذين أشارت إليهم الآية الكريمة
، قال – تعالى : ﴿وَاعْبُدُوْا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بِه شَيْئًا وَّ
بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَّ بِذِي الْقُرْبىٰ وَالْيَتَامىٰ
وَالْمَسَاكِيْنِ وَالْجَارِ ذِيْ الْقُرْبىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيْلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
إِنَّ اللهَ لاَيُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوْرًا﴾ سورة النساء –
آية : 36 .
الرحمة
بالحيوان والطير
وكما
أوجب الله تعالى الرحمة على الإنسان مع أخيه الإنسان فإنه قد أوجبها على الإنسان
للحيوان إذ هو كذلك محتاج إلى الرحمة ، قال رسول الله ﷺ
«اتقوا
الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة»
رواه أبوداوود بإسناد صحيح، وقال: «بينما
رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها وشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث
يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ
مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر
له»
. قالوا يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في
كل كبد رطبة أجر» . متفق عليه، وعن
أبي يعلى شداد بن أوس – رضي الله عنه – قال : «إن
الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتله وإذا ذبحتم بأحسنوا الذبحة
، وليحد أحدكم شفرته وليرج ذبيحته .. وأخرج النسائي بسنده عن النبي ﷺ
قال: «من
قتل عصفورًا عبثًا عج إلى الله يوم القيامة ، ويقول يارب سل هذا لم قتلني عبثًا
ولم يقتلني لمنفعة» .. قال ﷺ
: «دخلت
النار امرأة في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»
.
ليس من
الإسلام
وإذا كانت الرحمة سمة الإسلام وخلق أهله
فإن الفظاظة والغلظة والقسوة من الرذائل التي يمقتها الإسلام بما يصيب المجتمعات
منها من التفكك والكراهية وإثارة روح العداء والبغضاء والحقد والشحناء وآثار ذلك
في محيط الأسرة من التخريب والتدمير لكل القيم والأعراف المحمودة ، وثم فإن هؤلاء
لا يستأهلون أن يرحمهم الرحمن وهو القائل : ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيْبٌ
مِّنَ الْمُحْسِنِيْنَ﴾ سورة الأعراف – آية : 56 .
والرسول
الكريم ﷺ
يقول: «من
لايرحم الناس لايرحمه الله»
الشيخان والترمذي .. كما يقول: «لا
تنزع الرحمة إلا من شقي»
أبوداوود والترمذي ويقول للأعرابي الذي قال إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم .. «وما
أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك»
.. البخاري .
وعليه
فإن الرحمة لاتكون بالعطاء فحسب بل هي في الحنان المتدفق والبسمة الحانية والقول
الكريم وتحمل الأذى والتجاوز عن الغير بل هي في كف الظالم عن ظلمه وبذل النصح للمخطيء
والتواصي بالحق والصبر .
عطاء بلا
حدود
ألا
ما أعظم فضل الله على عباده أن كان هذا العطاء الواسع المدلول على ما تفضل الله به
على عباده الضعفاء من هذا الجزء من رحمته الواسعة السابغة في هذه الدنيا، حيث أنها
تشيع في الناس ما ينتظم به ميزان الحياة وتسمو أنماط السلوك في المجتمعات ويسود
الود والتعاطف جميع العلاقات وتمضي المسيرة بهذا الإنسان إلى ما يوثق علاقته بربه
رغبًا لا رهبًا ، وشكرًا لا كفرًا وعلاقته ببني جنسه مودة وقربًا وبالحياة من حوله
في إطار من التعاون على البر والتقوى والمحبة والتعاطف ، ويتجلى ذلك الفضل أكثر
وأكثر فيما يغمرهم به من فيض جوده وكرمه قال تعالى : ﴿يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيْهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيْهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيْهِ لِكُلِّ
امْرئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأنٌ يُّغْنِيْهِ﴾ سورة عبس آية : 34 – 37 .
ذلك
الذي يتمثل فيما يستعين به عباده المؤمنين من هذه الرحمات التي يجزيء منها مضى
سفين الحياة بأمواجها العاتية إلى شاطئ السلامة وبر النجاة .
جاء
في فتح الباري أن الرحمة رحمتان رحمة من صفة الذات وهي لاتتعدد ورحمة من صفة الفعل
وهي المشار إليها بقوله ﷺ
: «إن
الله جعل الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا»
به يتراحم الخلائق .. الخ.
وفي
رواية لمسلم أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض ، كل رحمة طباق ما بين
السماء والأرض .. قال القرطبي والمعنى أن الله أظهر تقديره يوم أظهر تقدير السموات
والأرض وقوله لكل رحمة طباق ما بين السماء والأرض المراد بها التكثير والتعظيم .
وقوله
ﷺ
: وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا وفي رواية عطاء وأنزل منها رحمة واحدة لا بين الجن
والإنس والبهائم .. وفي إطار هذه الرحمة يسر الله لكل وسيلة الحياة والحفاظ على
النوع والجو الذي يلائمه والبيئة التي يعيش فيها في البر والبحر والجو وعلمه كيف
يذود عن نفسه وزوده بالسلاح الذي يستخدمه حفاظاً على حياته وبقائه والغذاء الذي
يقوته ويقوم بأوده إلى جانب ما فيه من منافع تُثري الحياة وتُضفي عليها ما يخلب
الأنظار ويبعث على حبها والتعلق بها ، وشاء سبحانه أن يسوس هذه العوالم كلها
بقانون لم يترك شيئًا من أمر للحياة إلا عالجه على عين من خالقه العليم بخلقه
وأعلن أنها جميعًا مسخرة لهذا الإنسان الذي هو أضعفها ، قال – تعالى : ﴿وَسَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِيْ السَّمـٰـوَاتِ وَمَا فِيْ الأَرْضِ جَمِيْعًا مِّنْهُ
إِنَّ فِيْ ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَّتَفَكّرُوْنَ﴾ سورة الجاثية –
آية: 13 .
كما قال سبحانه، مذكرًا ببعض نعمه التي
تفضل بها على عباده . ﴿إنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمـٰـوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِيْ تَجْرِيْ فِيْ
الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِنْ
مَّآءٍ فَأَحْيَا بِه الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ
دَآبَّةٍ وَّ تَصْرِيْفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ
وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَّعْقِلُوْنَ﴾ سورة البقرة – آية:164.
وصدق
الله العظيم المتفضل المنعم إذ يقول: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوْا نِعْمَةَ اللهِ
لاَ تُحْصُوْهَا إِنَّ الله لَغَفُوْرٌ رَّحِيْمٌ﴾ سورة النمل – آية: 18.
الرحمة
العامة
وقوله
ﷺ:
«وأمسك
عنده تسعة وتسعين» قال القرطبي مقتضى
هذا الحديث أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع واحد انتظمت به
مصالحهم وحصلت به مرافقهم فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت
مائة وكلها للمؤمنين ، قال تعالى : ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَحِيْمًا)
.
فان
رحيمًا من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها. ويُفْهَم من هذا أن الكفار لايبقى
لهم حظ منالرحمة ، لامن جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها إذا كمل ما كان في علم الله
من الرحمات للمؤمنين وإليه الإشارة بقوله – تعالى: ﴿وَرَحْمَتِيْ وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبَهَا لِلَّذِيْنَ يَتَّقُوْنَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ
وَالَّذِيْنَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُوْنَ﴾ . سورة الأعراف – آية : 156.
وقال
ابن أبي جمرة ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدنيا بتسع وتسعين جزءًا فإذا قوبل كل
جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزءًا ويؤخذ منه أن الرحمة في الآخرة أكثر من
النقمة فيها ويؤيده قوله في الحديث القدسي : ﴿غَلَبَتْ رَحْمَتِيْ غَضَبِيْ﴾
.
أما
مناسبة خصوص العدد فيحتمل أن تكون مناسبة في هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج
الجنة والجنة هي كل الرحمة فكان كل رحمة بإزاء درجة . وقد ثبت أنه لا يدخل أحد
الجنة إلا برحمة الله تعالى فمن ناله منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة
وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة ، هذا والرحمة المراد بها متعلق
الإرادة لا نفس الإرادة وأنها راجعة إلى المنافع والنعم.
وقوله
: «فمن
ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه»
.
وفي
رواية عطاء: «فيها
يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها».
وفي
رواية سلمان: «فيها
تعطف الوالدة على ولدها والوحشُ والطير بعضُها على بعض».
قال
ابن أبي جمرة خص الفرس بالذكر لأنها أشد الحيوان المألوف الذي يعاين المخاطبون
حركته مع ولده ولما في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل، ومع ذلك يتجنب أن يصل
الضرر منها إلى ولدها .
ينابيع
الرحمة
وإنه
لمما يُنْمِي خُلُق الرحمة في قلوب المؤمنين ما يتعبدون به الله سبحانه ، من
الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والتي بها ينخرط المرء في سلك الجماعة
عضوًا نافعًا يشاركهم آلامهم وآمالهم، ويتعاون معهم في كل ما فيه خيرهم في دنياهم
وآخرتهم .
أما
الزكاة فإنها وقاية من الشح ، ورياضة على بسط الكف ، وتزكية للنفوس ، وطهرة لها من
الأنانية والأثرة ، وغوث للفقراء والمساكين ، وسد لحاجة المحتاجين ، فضلاً عن أثر ذلك
من إشاعة روح المودة والقضاء على ما قد يكون في بعض النفوس من الأحقاد التي يطفىء
لهيبَها عطاءُ المحسنين .
ويأتي الصوم الذي هو جنة المؤمن من سلطان
الهوى ونزعات الشيطان ، وتحرير له من رق العبودية لغير الله ، وإيقاظ لعاطفة
الشفقة والرأفة نتيجة المعاناة في الصوم على البائسين والمحرومين من موسم لفيوضات
الحق سبحانه على الصائمين. كل ذلك خير باعث على التواصل والتعاطف والإحسان
والتراحم . ومن ثم يصير الجتمع بأبنائه كالجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو
يتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أما
الحج فإنه العلاج لأدواء المجتمع الكبير الذي ينضوى تحت لواء الإيمان بالله رب
العالمين ؛ حيث الحجيج يفدون إلى أداء هذا النسك كل عام ذرافات ووحدانًا رجالاً
وركبانًا من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم ويفيدون ويستفيدون مستجيبين لدعوة
أبيهم إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام فقد ترك طفله وأمه في هذا المكان المقفر،
حين خاف عليهم الضيعة فقد قام ضارعًا إلى ربه قائلاً :
﴿رَبَّنَا
إِنِّيْ أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِيْ بِوَادٍ غَيْرِ ذِيْ زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
المُحَرَّم رَبَّنَا لِيُقِيْمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِم وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُوْنَ﴾
.
وقد
شاء الحق سبحانه الاستجابة لخليله إبراهيم فكان الحج أحد أركان الإسلام فرضًا على
القادرين، والملاذ الذي يوفر لهذا الوادي حاجاته ويجد فيه كل أمانيه ورغباته وأنه
لدعوة صريحة إلى الاهتمام بأمر المسلمين وبذل الطاقات من القادرين لدفع البلاء
والضر إذا نزل بهم أنى وجدوا بل وأكثر من ذلك فإنه يعلن أن من أهم ثمار الإيمان أن
يَحْيَىٰ القادرون حياتهم ويشاركونهم آمالهم وآلامهم وأنه من لم يهتم بأمر
المسلمين فليس منهم.
وبعد
.. فما أجمل أن يعيش الإنسان في ظلال الإيمان تعلو في سماء حياته ألوية الرحمة
التي بها تنتظم جميع علاقاته .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني
1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.